استحوذت التيارات التغريبية على وسائل الإعلام ذات الصلة المباشرة بالتغيير والتوجيه وصناعة الرأي العام لسنوات طويلة، وتمكنت من خلالها من بثِّ أفكارها وتصوراتها، وتشويه الآخر الإسلامي في غياب شبه تام للإسلاميين عن هذه الساحة، بسبب الإقصاء المتعمَّد تارة، أو لقلة وعي الحركات الإسلامية بخطورة هذه الآلة تارة أخرى.
وقُبَيل اندلاع ثورات الربيع العربي وجد بعض الإسلاميين متنفسًا إعلاميًا من خلال قنوات فضائية محددة، استُغلَّت منابرَ إعلاميةً تركزت مهمتها في الوعظ والإرشاد الديني بصورة كليَّة، بينما استغلت تيارات أخرى- لم تجد لها موطئ قدم في ساحة الفضائيات- فضاء الشبكة العنكبوتية لكسر الطوق الذي فُرِض عليها.
ومع نجاح ثورات الربيع العربي في إزاحة بعض الأنظمة التي وقفت حجر عثرة أمام الوجود الإسلامي في الإعلام بصورة مؤثرة، تحتَّمَ على الإسلاميين أن يفقهوا استخدام هذه الآلة، وأن يحضروا بشكل صحيح على الخريطة الإعلامية.
تحديات الوجود:
وهذا الوجود الإسلامي الفاعل على الخريطة الإعلامية تواجهه في البداية عدة تحديات، منها:
الالتزام بالتصوُّر الإسلامي:
الإعلام- خاصة المرئي- ارتبط في كثير من الأذهان بالإباحية لإرضاء النزوات والشهوات، أو العزف على وتر السلطة لإشباع حاجة الحكام والرؤساء، بَيْد أن إعلام الإسلاميين لا بد أن يلتزم في مضمونه ووسائله بالتصوُّر الإسلامي للإنسان والكون والحياة المستمد- أساسًا- من القرآن الكريم وصحيح السُّـنَّة.
تبنِّي المعايير الاحترافية:
ونقصد بها التعامل مع مفردات الإعلام بشكل احترافي ورصين؛ فلا يكفي في الرسالة الإعلامية المؤثرة حشو الساعات الطوال للفضائية أو للوسيلة الإعلامية وبالمواد الإعلامية فقط؛ بل لا بد من خطة إعلامية واعية مبنية على أسس علمية، تعي من تخاطب، وبما تخاطب، ولماذا تخاطب؟
صحيح أن الأنظمة السابقة قد فرضت حظرًا على الوجود الإسلامي في الإعلام، وهو ما أفقد كثيرًا من الإسلاميين الحسَّ المهني، ولكن لن تَعدِم الحركات الإسلامية وسيلة للتغلب على هذه العقبة وتجاوزها.
تحديد الأهداف المحورية:
الإنسان هو الهدف والغاية، وأي استثمار يُغفِل الإنسان ويتجاهل عقله، هو استثمار لا قيمة له ولا جدوى من ورائه؛ لأن هؤلاء البشر هم المكوِّن الأساسيُّ في بناء الأمم، ومن ثَمَّ فإن هدف المؤسسة الإعلامية الإسلامية بناء إنسان النهضة، وأي هدف آخر يأتي تابعًا، وبما لا يتعارض مع هذا الهدف الأسمى.
وهذا يستلزم من القائمين على الإعلام الإسلامي، تزويد الجماهير المسلمة وغيرها بحقائق الإسلام، والقضاء على المعتقـدات الخاطئة والمفاهيــم المغلوطة عن الإسلام والمسلمين، واتخاذ كافة الوسائل التي تنمي مَلَكَة التفكير المبدع لدى الإنسان.
خطاب الناس كافة:
لا بد أن يستقر في وعي الإسلاميين أن رسالتهم موجَّهة إلى كل الناس، وهذا ما يفرض على الإعلاميين الإسلاميين تنويع لغة الخطاب بما يناسب الداخل العربي المسلم، والخارج الغربي وغيره، وكذا تنويع الاهتمامات؛ بحيث تجذب لها شرائح متنوعة ومتعددة، كلٌّ يجد بغيته في الإعلام الإسلامي الرشيد.
مراعاة الأولويات:
فقه الأولويات لا بد أن يكون عنصرًا رئيسيًا في التوجُّهات والقرارات واختيار البدائل؛ فلا يتم الاشتغال إعلاميًا بالفروع عن الأصول، ولا يتم الإصرار على أمرٍ تغلُب مضارُّه على فوائده، حتى لو كان في أصله صحيحًا.
استراتيجية التطوير:
نحن نتصور أن إعلام الإسلاميين لا بد أن يحقق عدة أهداف، منها: القيام بعملية التغيير الحقيقي، وتغيير الأفكار والسلوكيات والأخلاق على المستوى العام والخاص. كما أن عليه المساهمة في صناعة الرأي العام، والانتقال بالجمهور إلى وعي أكبر وحضور مؤثر، ونقل صورتهم لكل طبقات المجتمع حسب تفاوت ثقافتهم واللغة الواجبة بحقهم.
محاور إستراتيجية التطوير:
انطلاقًا من أهمية تحقيق هذه الأهداف كانت الضرورة الملحَّة لصياغة إستراتيجيةٍ إعلاميةٍ للإسلاميين.
وتدور هذه الإستراتيجية- برأينا- حول أربعة محاور، هي:
أولاَ: المرسل:
فاختيار العناصر القادرة على تبليغ الرسالة، هو في الحقيقة البداية الصحيحة والركيزة الأساسية لنجاح هذا العمل؛ فالإنسان هو العنصر الأول في إحداث أي تغيير مقصود، والعناية بإعداد الإعلاميِّين الإسلاميِّين، وتأهيلِهم حتى يكونوا قادرين على تحمُّل هذه المسؤولية الضخمة، عملٌ كبير يتطلب جهودًا عظيمةً وطاقاتٍ عديدةً.
ثانيًا: مضمون الخطاب:
خطاب الحركات الإسلامية- وَفْق إستراتيجيتنا المقترحة- يركز على عدة جوانب، في مقدمتها: أن يكون تسامحيًا مجمِّعًا لا تصادميًا منفِّرًا، وأن يكون مزيلًا للشبهات؛ سواء منها التي تتعرض للإسلام باعتباره منهجًا، أو تلك الشبهات التي تساهم في تشويه صورة الإسلاميين.
كما يسعى هذا الخطاب للتركيز على التوعية العامة للناس لكثير من المفاهيم المختلطة، كمفهوم الدولة الإسلامية، ومفهوم الجهاد وبيان دوافعه في الإسلام، وأن يكون خطابًا مطمئنًا: كشرح موقف الإسلام من النصارى وبيان حرية الاعتقاد في الإسلام وأنه لا إكراه في الدين، وأن أكثر مخاوف الخائفين إنما تنتج من سوء فهم للإسلام أو من سوء عرض لمفاهيم الإسلام.
ويركز هذا الخطاب على القضايا ذات البعد الجماهيري التي تحظى باهتمام شعبي قوي، وأن يكون شاملًا لكافة مناحي الحياة ومجالاتها، قادرًا على ترسيخ قيمة الشمول، مبرهنًا على أن الإسلام جاء لسعادة الفرد في كافة مناحي الحياة. وأخيرًا لا بد أن يكون عالِـمًا بمتطلبات العصر، ويتبنِّى هموم الأمة، ويُشعِرَ رجلَ الشارع بأن من يتحدث يملك حلًا إسلاميًا عمليًا لا مجرد نظريات.
ثالثًا: المرسل له:
شخصيةُ مستقبِل الرسالة الإعلامية متنوعة ومتعددة؛ فمنهم عامة الناس الذين يحتاجون خطابًا سهلًا، يسهل عليهم استيعابه وفهمه، يخاطب حاجاتهم ويزيل عن أذهانهم الشبهات، بما يجعلهم ظهيرًا قويًا للحركات الإسلامية.
وقد يكون المستقبل هم النخب الفكرية؛ حيث من الضروري أن يتوجه الخطاب الإعلامي الإسلامي، إلى العمل على كسب النخب العَلمانيَّة؛ فإما أن يصيروا في خندق المدافعين عن الحركة الإسلامية وأطروحاتها، أو على الأقل يقفون على الحياد ويكفُّون عن صبِّ أذاهم على الحركة الإسلامية وأطروحاتها.
ويتوجه الخطاب الإعلامي الإسلامي كذلك للعالم الخارجي، وهنا لا بد لهذا الخطاب أن يتبنَّى رؤية إسلامية عالمية مطمئنة موجَّهة إلى ذلك العالم الحذِر والقلِق والمترقِّب.
آليات تطبيق الإستراتيجية:
تتضمن آليات تطبيق الإستراتيجية العناصر التالية:
1- إعداد الدراسات الميدانية والبحوث المتخصصة لأهم احتياجات المجتمع المعني بالبث الإعلامي، وهذا ما يمكِّن من إعداد الخطط العلمية التي تتوافق مع ظروف الجماهير المتلقية، وتتناسب مع واقعهم الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، وتلبِّي احتياجاتهم، وتتناول مشكلاتهم.
2- إنشاء ودعم معاهدَ ومراكز البحوث الإعلامية، التي تهتمُّ بالإعلام الإسلامي، ولعلَّ من الأهمية بمكانٍ أن تسير هذه الجهود العلمية التأصيلية وَفْقَ خطة مدروسة وتصوُّر سليم للأولويَّات، وأن تعتمد على أسلوب فِرَق العمل الجماعية بدلًا من الأعمال والاجتهادات الفرديَّة المحدودة.
3- التفكير بصورة إبداعية علمية بنوعية المواد الإعلامية والبرامج الصالحة للعرض، وانتقاء الأفضل منها حسب رسالة الوسيلة الإعلامية، وبما يحقق رؤيتها العامة وأهدافها المستقبلية.
4- إيجاد استشارية متخصصة لتقديم المشورة للإعلاميين في التعامل مع الشؤون السياسية، وتكوين روابط اجتماعية وجمعيات أهلية يكون هدفها وضع ضوابط لمراقبة الأداء الإعلامي العام لكي لا ينحرف لخدمة أشخاص أو مؤسسات بعينها.
5- السعي نحو اجتهاد عصري يقوم به علماء يمتلكون زادًا متينًا من العلم الشرعي، ويمتلكون أيضًا زادًا متينًا من العلم الإعلامي في جانبَيه (النظري والتطبيقي).
6- الاستعانة بالخبرات الغربية في نواحي التقنية، وهو أمر لا يعيب التجربة الإسلامية بل يُكثفها ويصقل عناصرها، ويُنضِج أداءها؛ طالما أن هذه الخبرات لا تؤثر على مضمون الرسالة الذي يجب أن يكون صناعة إسلامية صِرْفة.
عوامل نجاح الإستراتيجية:
ولكي تنجح هذه الاستراتيجية لا بد لها أن تراعي عدة جوانب، منها:
1- انتهاج أسلوب التدرُّج في الإصلاح؛ إذ إنَّ كثيرًا من المفاسد والانحرافات التي تحيط بوسائل الإعلام قد استغرق نشرُها وتكريسها زمنًا ممتدًا، وإصلاحها أو تخليصُ الإعلام منها يحتاج إلى زمن ممتدٍّ أيضًا.
2- المصالحة بين المؤسسة الدينية وبين المبدعين الإعلاميين؛ إذ إن تخوُّف المؤسسة الدينية من أطروحات التجديد، قد يدفعها للعمل على تقييد تيارات التجديد في الإعلام.
3- توفُّر الإرادة الحقيقية والجادة والمقدرات المادية والبشرية والتقنية الضرورية لتنفيذ الإستراتيجية، والواقع أن ذلك يشكل عقبة كبيرة، وقد يفيد في التغلب على تلك العقبة تكوينُ هيئة إدارية- تنفيذية، تتولى بلورة وتعزيز المقدرات المادية والبشرية والتقنية اللازمة لتنفيذ الإستراتيجية.
4- الاستعانة بالمؤسسات الخيرية ومشاريعها الوقفية في دعم وسائل الإعلام وتمويلها، والتعرُّف على السبل والأساليب الممكنة واللازمة لتوثيق الصلة ما بين الوقف ووسائل الإعلام، والإفادة منها في دعمها وتمويلها ورعاية مشاريعها.
عقبات في طريق النجاح:
وهناك عدة عقبات يجدر بالعاملين في الحقل الإعلامي من الإسلاميين مراعاتها؛ لكي تؤتي هذه الإستراتيجية أُكُلَها، وهي:
1- تجنُّب السلبية وردود الأفعال:
إن ردود الأفعال قد تجعل إعلام الإسلاميين يتصف بالسلبية، ولا يستطيع القيام بالحركة الأولى، ومن ثَمَّ يصبح فاقدًا القدرةَ على الخَلْق والإبداع؛ وبذا يكون غير فعَّال؛ لأنه أصبح يعتمد في تحريك أدواته وخطابه على حَراك الآخرين.
2- تجاوز العتبة الحزبية:
ونقصد بالحزبية تخليق خلافات من الفراغ لا تصبُّ أبدًا في الصالح العام، والوقوع في فخ إنتاج صراعات جديدة؛ حيث يسعى كلُّ تيار إلى أثبات أنه الخطاب الوحيد المعبِّر عن الإسلام؛ في حين أن مجال العمل الإعلامي الرشيد، لا بد أن يتجاوز عتبة التعصب الحزبي.
3- تجنُّب الوقوع في براثن الخطاب المثير للمخاوف:
حيث يُفترَض في خطاب الإسلاميين التحدث بصيغة تطمئن الجميع، وعليهم أن يقنعوا شعوبهم أولًا ثم العالم الغربي أن الإسلام غير مخيف كما تصور الدوائر الغربية له، بل هو أكبر ضمانة لحقوق الإنسان والأقليات.
4- الابتعاد عن الهيمنة المحلية والشخصية:
ونقصد بهيمنة الطابع المحلي والشخصي: الاهتمام بالأحداث والفعاليات القُطْرية على حساب قضايا الأمة والأحداث العالمية، وهيمنة الطابع الشخصي لمالكيها أو القائمين عليها، فتؤثر على السمة العامة لبرامجها، وعلى مستواها المهني، في حين أن عالمية رسالة الإسلام تقتضي أن تَعرِض وسائل الإعلام لعلاج القضايا ذات الطبيعة العالمية التي تؤثر في البشرية كلها.
5- الافتقار إلى عناصر التميز، والاكتفاء بالتقليد:
ونقصد بذلك الجمود وعدم السعي لإنتاج خطاب إعلامي حديث ومتميز، والاكتفاء بالتكرار والتقليد؛ اعتقادًا بأن التجديد والمعاصرة يأتيان من خلال تحديث الأُطُر والأدوات والمظاهر المستخدَمة فقط، وهو ما يعني إعادة إنتاج خطاباتها القديمة بحلَّة جديدة وبتقنيات حديثة فقط.
6- تشتُّت أولويات الخطاب الإعلامي:
ونعني به استمرار التجاذب الحاصل بين أولوية الديني العقدي والسياسي الاجتماعي، وعدم وجود محاولة جادة لفضِّ هذا التجاذب، والخروج بصيغ متوازنة لإزالة هذا التزاحم، وقد يعود السبب في ذلك إلى إهمال الشأن الفكري والسياسي الاجتماعي داخل أغلب الجماعات الإسلامية.
7- غلبة الطابع المثالي:
تعاظم الفرق بين الواقع المقدَّم في خطاب بعض الحركات الإسلامية، والواقع الذي يعيشه المشاهد، وهو ما ينشأ عنه- في الغالب- اعتقاد المتلقين بصعوبة التعامل مع الواقع، وهو ما يعني غياب عشرات الساعات من البث دون فائدة عملية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الكاتب: عصام زيدان: (البيان عدد 279)
المصدر: موقع الشبكة الإسلامية